النقد مرآة الأدب .. هو انعكاس الضوء على صفحة بحره العميق .. وهنا في موقعي .. أضع بعض اعمالي النقدية لعدد من الإبداعات العربية المختلفة .. بالإضافة الى بعض كتاباتي الخاصة.... رحاب الخطيب

اهلا وسهلا بكم في موقع مرآة النقد

الموقع باللغة الانجليزية

  

Web site in English    من العربية إلى الإنجليزية

قراءة في قصة ( وجهي والمدينة للكاتب منذر ابو حلتم )



بقلم : رحاب فارس الخطيب


اولاً : القصة


هناك شيء خطأ .. شيء غير طبيعي .. يشبه رائحة غريبة تتسرب في الهواء ، وتخترق الجدران .. ! صمت غريب يلف المدينة وشوارعها .. لا أعرف كم ساعة نمت .. لكنني استيقظ الآن وشعور بالغربة يجتاحني .. أنظر في ساعتي .. إنها متوقفة .. كم الساعة الآن ؟!..انظر من النافذة نحو الجبل البعيد .. وراء المدينة ، حيث تعودت الشمس أن تغيب كل مساء ، لكن السماء بلونها الرمادي تضفي على مشاعري مزيداًمن الاغتراب .أغسل وجهي .. ألمح على الطاولة صحيفة الأمس .. أمر على عناوينها بسرعة ، شعور بالغثيان يدفعني إلى إلقائها بعيداً . عطش شديد يرتفع في صدري كموجة حر صحراوية .. أبتسم و أتمتم :صدري صحراء .. ! بداية تصلح لقصيدة مملة -أذهب إلى المطبخ وأفتح الثلاجة .. ألمح على الثلاجة كتاباً مفتوحاً .. متى وضعته هنا ؟ .. أتصفح الكتاب .. الغثيان يعاودني ، فألقيه بعيداً ..البيت ضيق يكاد يخنقني .. أتنفس بعمق ، ولكن تلك الرائحة الغريبة تنتشر في كل مكان .. يجب أن اخرج .. تنبثق صورتها في مخيلتي كوردة تشق صحراء الإسمنت التي تحاصرني ، وحدها هي القادرة على تمزيق هذا الركود الرطب الممل .. كانت تقول لي : - أنت دائماً متحمس ..لكنها كانت تتابع ضاحكة : - ولهذا فأنا أحبك ..!أخرج مسرعاً .. الشارع مقفر ، أسير ببطء مندهشاً .. ما هذا الهدوء الغريب الذي يلف الشارع ؟ .. اقترب من موقف الباصات ، إنه مقفر هو الآخر .. يبدو إنني نمت كثيراً .. ولكن كم الساعة الآن ؟ .. أنظر إلى السماء .. سقف رصاصي يمتد من الأفق إلى الأفق ..انتظر قليلاً ثم أسير حتى الشارع الرئيس .. هناك خطأ ما ..! فحتى في أيام الشتاء الموحلة لا يكون الشارع مقفراً هكذا .. القلق بدأ يساورني .. أنظر حولي بخوف .. أشاهد شخصاً من بعيد ، يسير ببطء قاطعاً الشارع بخطوات آلية .. أناديه لكنه يمضي دون أن يلتفت ! .. شيء غريب يتنفس في شوارع المدينة ..شخص آخر يمر قربي .. أناديه ، أمسك بكتفه وأديره نحوي بعنف .. أنظر إلى وجهه .. فأكاد اسقط ميتاً ..كان رأسه بلا وجه .. مجرد مساحة فارغة بلا عينين أو فم أو أنف ..!! .. يفلت ذراعه من يدي ويمضي ..شخص آخر .. وآخر .. الجميع يسيرون بحركات آلية وقد فقدوا وجوههم .. أفكر بالهرب ، ولكن إلى أين ؟! وكل شوارع المدينة مقفرة .. غريبة أصرخ بكل قوتي .. يخرج صوتي غريباً متحشرجاً .. تردد صداه جدران المدينة الصامتة .. أي كابوس هذا ؟ أحاول أن أفكر ، أن أتذكر .. أن أفسر هذه الظاهرة .. لكن الضباب الرمادي يغلف كل شيء ..تنبثق صورتها الجميلة في مخيلتي .. وردة تشق صحراء الإسمنت التي تحاصرني .. يشلني الرعب ، يجب أن أراها .. أن اطمئن عليها ..! اركض بجنون بين فاقدي الوجوه ، أقطع شارعاً أثر شارع .. هاهو منزلها ، أقف قرب الباب .. لا أستطيع أن أتصورها بلا وجه ..أدق الباب بيد مرتجفة ، ثم أدفع الباب .. أكسره وأدخل .. أناديها بصوت بدا كالصراخ .. أسمع صوت خطواتها قادمة من الغرفة المجاورة .. التفت إليها بلهفة .. فيغوص قلبي في صدري كتلة من رصاص .. وأصرخ :مستحيل .. !! .. حتى أنت ؟-أمسك بيدها : - ماذا يحدث ؟ .. أكاد أجن .. هل تسمعينني ؟لكنها تسحب يدها ببطء ، وتدير وجهها الفارغ .. أبتعد ببطء ، ثم أخرج راكضاًأي وباء هذا ؟ أي جنون ؟ .. الجميع يفقدون وجوههم .. يفقدون عيونهم وأفواههم ..أقف فجأة .. ولكن أنا ..!ماذا عني أنا؟ هل يمكن ؟ ولكن لا .. فها هي عيناي أرى بهما .. وها هو فمي .. ما زلت قادراً على الصراخ ..أنظر إلى صورة وجهي في زجاج أحد المحلات .. ضباب خفيف بدأ يغطي ملامحي .. لكن وجهي ما زال فيه بقية من وضوح ..!أصرخ بقوة : - لن أفقد وجهي .. هل تسمعون ؟ لن أسمح لكم بسرقة وجهي !!لكن صدى صوتي تردده جدران المدينة ، ثم يخيم الصمت من جديد ..أضع يدي على وجهي لأتأكد من وجوده .. انظر حولي باحثاً عن مخرج .. لا بد أن هناك مخرج ما .. أتذكر .. الجبل .. الشمس كانت تغيب دائماً وراء الجبل .. في الأمس .. وقبل شهر .. وقبل آلاف السنين ، دائماً كانت الشمس تغيب هناك لا أعرف لماذا ..لكنني أمسك وجهي بكلتا يدي .. وأسرع راكضاً نحو الجبل


-----


القراءة النقدية :



بعد قراءة قصة وجهي والمدينة للكاتب منذر أبو حلتم ، وما تشكل في عقلي ومخيلتي من تصورات حولها . فقد استطاع الكاتب وبحق أن يعبر عن الواقع الأليم الذي يحياه الإنسان في وقتنا المعاصر من شعور بالغربة حتى وسط الأحبة ، ومن غياب هوية الإنسان ( وجه الإنسان ). شعور بالضيق والحشرجة والملل والبحث عن بصيص أمل والبحث في النهاية عن مخرج.من الملاحظ أن كاتبنا عمد إلى أسلوب المونولوج ( الصراع الداخلي ) وهذه سمة نجدها جلية في أسلوبه والتي تتطلب وبحق قدرة إبداعية في استخدامها . يقول : ( أخرج مسرعاً .. أسير ببطء مندهشاً .. أقترب من موقف الباصات ..يبدو أنني نمت كثيراً .. أنظر إلى السماء … ) . جاء أسلوبه هذا طبيعياً غير متكلف . أما صوره الفنية فهي قوية معبرة غريبة غير مألوفة في بعضها فهو يصور الصمت بشيء مادي يلف المدينة وشوارعها ( صمت غريب يلف المدينة وشوارعها ) كذلك العطش .. يشبه ارتفاعه في صدره بموجة حر صحراويه لشدته ( عطش شديد يرتفع في صدري كموجة حر صحراوية ) ، كذلك الركود شبهه بشيء رطب يُمزق ( وحدها القادرة على تمزيق هذا الركود الرطب ) ، هذا وفد أعطى للشيء الغريب في قصته عنصر التشخيص فجعله وكأنه إنسان يتنفس في شوارع المدينة .الدلالات والرموز : جاءت لتعبر عن الحالة النفسية التي عاشها البطل وعانى منها فقد استخدم دلالات عدة لتدل على الضيق والملل والشعور بالحصار من مثل : ( البيت ضيق يكاد يخنقني ) كذلك ( تنبثق صورتها في مخيلتي كوردة تشق صحراء الأسمنت التي تحاصرني ) دلالة على ثقل الحدث على نفسه ، والسقف الرصاصي الممتد من الأفق الى الأفق يعبر عن عدم قدرة البطل على تغيير الواقع المفروض على الجميع وعلى البطل نفسه .الألوان والحركة : استخدم الكاتب هذا الأسلوب فالسماء لونها رمادي عنده ( لكن السماء بلونها الرمادي تضفي على مشاعري مزيداً من الاغتراب ) و ( الضباب الرمادي ) والحركة في قوله ( لكن صدى صوتي تردده جدران المدينة ثم يخيم الصمت من جديد ) .. فالحركة والألوان لها دلالات تؤكد الحالة النفسية غير المألوفة التي عاشها البطل نتيجة المآسي والآلام الناتجة من اغتراب الإنسان عن واقعه وعن ذاته تبعاً لذلك .وفي النهاية حاول الكاتب من خلال إصرار بطل القصة أن يتمسك بوجهه وملامحه وأن ينظر حوله باحثاً عن مخرج ، لهذا ذهب راكضاً نحو الجبل باحثاً عن الشمس .. عن التجدد .. عن الحياة …أما بالنسبة للشكل الفني للقصة من حيث العناصر الفنية :الزمان : زمان هلامي غير محدد يفهم من خلال النص أنه في العصر الحديث بدلالة ( موقف الباصات ) .المكان : المدينةالشخوص : شخصية البطل ( الشخصية الرئيسة ) والإنسان المطلق .الأحداث : تسلسلت تصاعدياً بشكل سلس شيق إلى أن وصل الكاتب إلى ما يعرف بالعقدة .العقدة : عندما ذهب بطل القصة لملاقاة المحبوبة ( الأمل ) وفجيعته بأنها فقدت وجهها هي الأخرى .الحل : ذهاب بطل القصة للجبل في بحثه عن المخرج ورفضه لهذا الواقع الأليم .من الملاحظ أن الكاتب في هذه القصة وباقي قصص مجموعته ( للبحر وجه آخر ) عمان – 1997 يميل إلى استخدام المونولوج الداخلي والصور الفنية المعبرة والدلالات والرمز ، وعنده حسن تخلص بأسلوب شيق يشد القارئ منذ بدء القصة حتى آخر كلمة فيها …